وصية
الكاظم (ع) لهشام بن الحكم وصفته للعقل :
يا
هشام !.. إنّ
لقمان قال لابنه : تواضع للحق تكن أعقل الناس ، يا بني !.. إنّ الدنيا بحرٌ عميقٌ
قد غرق فيه عالمٌ كثيرٌ ، فلتكن سفينتك فيها تقوى الله ، وجسرها الإيمان ، وشراعها
التوكل ، وقيّمها العقل ، ودليلها العلم ، وسكّانها الصبر ....
يا هشام !.. لو كان في يدك جوزةٌ وقال الناس : لؤلؤةٌ ، ما كان ينفعك وأنت تعلم أنّها جوزةٌ ، ولو كان في يدك لؤلؤةٌ وقال الناس : أنّها جوزةٌ ، ما ضرّك وأنت تعلم أنّها لؤلؤةٌ !....
يا هشام !.. مَن سلّط ثلاثاّ على ثلاث ، فكأنّما أعان هواه على هدم عقله : مَن أظلم نور فكره بطول أمله ، ومحا طرائف حكمته بفضول كلامه ، وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه ، فكأنّما أعان هواه على هدم عقله ، ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه .
يا هشام !.. كيف يزكو عند الله عملك ؟.. وأنت قد شغلت عقلك عن أمر ربّك ، وأطعت هواك على غلبة عقلك .
يا هشام !.. الصبر على الوحدة علامة قوّة العقل ، فمَن عقل عن الله تبارك وتعالى اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها ، ورغب فيما عند ربّه ، وكان أنسه في الوحشة ، وصاحبه في الوحدة ، وغناه في العيلة ، ومعزّه في غير عشيرة ....
يا هشام !.. إن كان يغنيك ما يكفيك فأدنى ما في الدنيا يكفيك ، وإن كان لا يغنيك ما يكفيك فليس شيءٌ من الدنيا يغنيك.
يا هشام !.. إنّ العقلاء تركوا فضول الدنيا ، فكيف الذنوب ؟.. وترك الدنيا من الفضل ، وترك الذنوب من الفرض....
يا هشام !.. لاتمنحوا الجهّال الحكمة فتظلموها ، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم.
يا هشام !.. كما تركوا لكم الحكمة فاتركوا لهم الدنيا....
يا هشام !.. رحم الله مَن استحيا من الله حق الحياء : فحفظ الرأس وما حوى ، والبطن وما وعى ، وذكر الموت والبلى ، وعلم أنّ الجنّة محفوفة بالمكاره ، والنار محفوفة بالشهوات....
يا هشام !.. اصلح أيامك الذي هو أمامك ، فانظر أي يوم هو ؟.. وأعد له الجواب فإنك موقوفٌ ومسؤولٌ ، وخذ موعظتك من الدهر وأهله ، فإنّ الدهر طويلةٌ قصيرةٌ ، فاعمل كأنك ترى ثواب عملك لتكون أطمع في ذلك ، واعقل عن الله ، وانظر في تصرف الدهر وأحواله ، فإنّ ما هو آتٍ من الدنيا كما ولّى منها فاعتبر بها .
وقال علي بن الحسين (ع) : إنّ جميع ما طلعت عليه الشمس في مشارق الأرض ومغاربها بحرها وبرها وسهلها وجبلها ، عند ولي من أولياء الله وأهل المعرفة بحق الله كفيء الظلال ، ثم قال : أو لا حرٌّ يدع هذه اللماظة ( أي البقية القليلة ) لأهلها ؟.. يعني الدنيا ، فليس لأنفسكم ثمنٌ إلا الجنة فلا تبيعوها بغيرها ، فإنه من رضي من الله بالدنيا فقد رضي بالخسيس.
يا هشام !.. إنّ كل الناس يبصر النجوم ، ولكن لا يهتدي بها إلا مَن يعرف مجاريها ومنازلها ، وكذلك أنتم تدرسون الحكمة ، ولكن لا يهتدي بها منكم إلا من عمل بها.
يا هشام !.. إنّ المسيح (ع) قال للحواريين : يا عبيد السوء !.. يهوّلكم طول النخلة وتذكرون شوكها ومؤنة مراقيها ، وتنسون طيب ثمرها ومرافقتها ، كذلك تذكرون مؤونة عمل الآخرة فيطول عليكم أمده ، وتنسون ما تفضون إليه من نعيمها ونورها وثمرها .
يا عبيد السوء !.. نقّوا القمح وطيّبوه ، وادقّوا طحنه تجدوا طعمه ، ويهنّئكم أكله ، كذلك فأخلصوا الإيمان وأكملوه تجدوا حلاوته ، وينفعكم غبّه .
بحق أقول لكم : لو وجدتم سراجا يتوقّد بالقطران في ليلة مظلمة لاستضأتم به ولم يمنعكم منه ريح نتنه ، كذلك ينبغي لكم أن تأخذوا الحكمة ممن وجدتموها معه ، ولا يمنعكم منه سوء رغبته فيها .
يا عبيد الدنيا !.. بحق أقول لكم : لا تدركون شرف الآخرة إلا بترك ما تحبون ، فلا تنظروا بالتوبة غدا ، فإنّ دون غد يوماً وليلةً ، وقضاء الله فيهما يغدو ويروح .
بحق أقول لكم : إنّ مَن ليس عليه دَين من الناس أروح وأقلّ هماً ممن عليه الدين وإن أحسن القضاء ، وكذلك مَن لم يعمل الخطيئة أروح وأقلّ هماً ممن عمل الخطيئة وإن أخلص التوبة وأناب ، وإنّ صغار الذنوب ومحقراتها من مكائد إبليس يحقّرها لكم ويصغّرها في أعينكم ، فتجتمع وتكثر فتحيط بكم .
بحق أقول لكم : إنّ الناس في الحكمة رجلان : فرجلٌ أتقنها بقوله وصدّقها بفعله ، ورجلٌ أتقنها بقوله وضيّعها بسوء فعله ، فشتان بينهما ، فطوبى للعلماء بالفعل ، وويلٌ للعلماء بالقول .
يا عبيد السوء !.. اتخذوا مساجد ربكم سجوناً لأجسادكم وجباهكم ، واجعلوا قلوبكم بيوتاً للتقوى ، ولا تجعلوا قلوبكم مأوى للشهوات ، إنَّ أجزعكم عند البلاء لأشدكم حباً للدنيا ، وإنّ أصبركم على البلاء لأزهدكم في الدنيا .
يا عبيد السوء !.. لا تكونوا شبيهاً بالحداء الخاطفة ، ولا بالثعالب الخادعة ، ولا بالذئاب الغادرة ، ولا بالأُسد العاتية ، كما تفعل بالفراس كذلك تفعلون بالناس فريقا تخطفون ، وفريقا تخدعون ، وفريقا تقدرون بهم .
بحق أقول لكم : لا يغني عن الجسد أن يكون ظاهره صحيحا وباطنه فاسداً كذلك لا تغني أجسادكم التي قد أعجبتكم وقد فسدت قلوبكم ، وما يغني عنكم أن تنقوا جلودكم وقلوبكم دنسة ، ولا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيّب ويمسك النخالة ، كذلك أنتم تخرجون الحكمة من أفواهكم ويبقى الغلّ في صدروكم .
يا عبيد الدنيا !.. إنما مثلكم مثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه .
يا بني إسرائيل !.. زاحموا العلماء في مجالسهم ولوجثْواً على الركب ، فإنّ الله يحيي القلوب الميتة بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر.
يا هشام !.. مكتوبٌ في الإنجيل : طوبى للمتراحمين !.. أولئك هم المرحومون يوم القيامة ، طوبى للمصلحين بين الناس !.. أولئك هم المقرّبون يوم القيامة ، طوبى للمطهّرة قلوبهم !.. أولئك هم المتّقون يوم القيامة ، طوبى للمتواضعين في الدنيا !.. أولئك يرتقون منابر الملك يوم القيامة....
يا هشام !.. تعلّم من العلم ما جهلت ، وعلّم الجاهل مما علمت ، وعظّم العالم لعلمه ودع منازعته ، وصغّر الجاهل لجهله ولا تطرده ولكن قرّبه وعلّمه.
يا هشام !.. إنّ كلّ نعمة عجزت عن شكرها بمنزلة سيّئة تؤاخذ بها ، وقال أمير المؤمنين (ع) : إنّ لله عبادا كسرت قلوبهم خشيته ، وأسكتتهم عن النطق وإنهم لفصحاء عقلاء ، يستبقون إلى الله بالأعمال الزكية ، لا يستكثرون له الكثير ، ولا يرضون له من أنفسهم بالقليل ، يرون في أنفسهم أنهم أشرار ، وإنهم لأكياس وأبرار....
يا هشام !.. المتكلمون ثلاثة : فرابحٌ ، وسالمٌ ، وشاجبٌ :فأما الرابح فالذاكر لله ، وأما السالم فالساكت ، وأما الشاجب ( أي الهالك ) فالذي يخوض في الباطل ، إنّ الله حرّم الجنة على كلّ فاحشٍ بذيّ قليل الحياء ، لا يبالي ما قال ولا ما قيل فيه ، وكان أبو ذر - رضي الله عنه - يقول : يا مبتغي العلم !.. إنّ هذا اللسان مفتاح خير ومفتاح شرّ ، فاختم على فيك كما تختم على ذهبك وورقك....
يا هشام !.. قال الله جلّ وعزّ : وعزتي وجلالي وعظمتي وقدرتي وبهائي وعلوي في مكاني ، لا يؤثر عبدٌ هواي على هواه إلا جعلت الغنى في نفسه ، وهمّه في آخرته ، وكففت عليه ضيعته ، وضمنت السماوات والأرض رزقه ، وكنت له من وراء تجارة كل تاجر....
يا هشام !.. إنّ مَثَل الدنيا مَثَل الحية : مسها لين ، وفي جوفها السمّ القاتل ، يحذرها الرجال ذووا العقول ، ويهوي إليها الصبيان بأيديهم.
يا هشام !.. اصبر على طاعة الله ، واصبر عن معاصي الله ، فإنما الدنيا ساعةٌ فما مضى منها فليس تجد له سرورا ولا حزناً ، وما لم يأت منها فليس تعرفه ، فاصبر على تلك الساعة التي أنت فيها ، فكأنك قد اغتبطت ( أي إن صبرت فعن قريب تصير مغبوطاً في الأخرة ).
يا هشام !.. مَثَل الدنيا مَثَل ماء البحر ، كلما شرب منه العطشان ازداد عطشا حتى يقتله....
يا هشام !.. ليس منا مَن لم يحاسب نفسه في كلّ يوم ، فإن عمل حسناً استزاد منه ، وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه.
يا هشام !.. تمثلت الدنيا للمسيح (ع) في صورة امرأة زرقاء ، فقال لها : كم تزوجت ؟.. فقالت : كثيراً ، قال : فكلٌّ طلقّك ؟.. قالت : لا ، بل كلاًّ قتلت !.. قال المسيح : فويح أزواجك الباقين كيف لا يعتبرون بالماضين ؟....
يا هشام !.. إنّ الزرع ينبت في السهل ولا ينبت في الصفا ، فكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع ولا تعمر في قلب المتكبّر الجبّار ، لأنّ الله جعل التواضع آلة العقل ، وجعل التكبّر من آلة الجهل ، ألم تعلم أنّ مَن شمخ إلى السقف برأسه شجّه ؟.. ومَن خفض رأسه استظلّ تحته وأكنّه ( أي حفظه ) ؟.. فكذلك مَن لم يتواضع لله خفضه الله ، ومَن تواضع لله رفعه.
يا هشام !.. ما أقبح الفقر بعد الغنى ، وأقبح الخطيئة بعد النسك ، وأقبح من ذلك العابد لله ثم يترك عبادته....
يا هشام !..قال رسول الله (ص) : إذا رأيتم المؤمن صموتاً فادنوا منه فإنه يلقّى الحكمة ، والمؤمن قليل الكلام كثير العمل ، والمنافق كثير الكلام قليل العمل.
يا هشام !.. أوحى الله إلى داود : قل لعبادي : لا يجعلوا بيني وبينهم عالماً مفتوناً بالدنيا فيصدّهم عن ذكري ، وعن طريق محبتي ومناجاتي ، أولئك قطّاع الطريق من عبادي ، إن أدنى ما أنا صانعٌ بهم أن أنزع حلاوة عبادتي ومناجاتي من قلوبهم....
يا هشام !.. أوحى الله إلى داود : حذّر وأنذر أصحابك عن حبّ الشهوات ، فإنّ المعلّقة قلوبهم بشهوات الدنيا قلوبهم محجوبةٌ عني.
يا هشام !.. إياك والكبر على أوليائي ، والإستطالة بعلمك فيمقتك الله ، فلا تنفعك بعد مقته دنياك ولا آخرتك ، وكن في الدنيا كساكن الدار ليست له ، إنما ينتظر الرحيل....
يا هشام !.. إياك ومخالطة الناس والأنس بهم ، إلا أن تجد منهم عاقلاً مأموناً فأنس به واهرب من سائرهم كهربك من السباع الضارية .
وينبغي للعاقل إذا عمل عملاً أن يستحيي من الله ، إذ تفرّد له بالنعم أن يشارك في عمله أحداً غيره ، وإذا حزبك أمران لا تدري أيهما خيرٌ وأصوب ، فانظر أيهما أقرب إلى هواك فخالفه ، فإنّ كثير الثواب في مخالفة هواك ، وإياك أن تغلب الحكمة وتضعها في الجهالة .
قال هشام : فقلت له : فإن وجدت رجلاً طالباً غير أنّ عقله لا يتسع لضبط ما ألقي إليه ؟.. قال : فتلطّف له في النصيحة ، فإن ضاق قلبه فلا تعرضنّ نفسك للفتنة .
واحذر ردّ المتكبرين ، فإنّ العلم يدل على أن يحمل على من لا يفيق ، قلت : فإن لم أجد من يعقل السؤال عنها ؟.. قال فاغتنم جهله عن السؤال حتى تسلم فتنة القول وعظيم فتنة الرد .
واعلم أنّ الله لم يرفع المتواضعين بقدر تواضعهم ، ولكن رفعهم بقدر عظمته ومجده ، ولم يؤمن الخائفين بقدر خوفهم ، ولكن آمنهم بقدر كرمه وجوده ، ولم يفرّح المحزونين بقدر حزنهم ، ولكن فرّحهم بقدر رأفته ورحمته ، فما ظنك بالرؤوف الرحيم الذي يتودّد إلى مَن يؤذيه بأوليائه ؟..
فكيف بمَن يُؤذى فيه ؟.. وما ظنك بالتوّاب الرحيم الذي يتوب على مَن يعاديه ؟.. فكيف بمَن يترضاه ويختار عداوة الخلق فيه.
يا هشام !.. مَن أحب الدنيا ذهب خوف الآخرة من قلبه ، وما أُوتي عبدٌ علماً فازداد للدنيا حباً إلا ازداد من الله بعداً ، وازداد الله عليه غضباً.
يا هشام !.. إنّ العاقل اللبيب مَن ترك ما لا طاقة له به ، وأكثر الصواب في خلاف الهوى .. ومَن طال أمله ساء عمله....
قال هشام : فأي الأعداء أوجبهم مجاهدة ؟.. قال (ع) :
أقربهم إليك ، وأعداهم لك ، وأضرهم بك ، وأعظمهم لك عداوة ، وأخفاهم لك شخصاً مع دنوه منك ، ومن يحرّض أعداءك عليك ، وهو إبليس الموكّل بوسواس القلوب ، فله فلتشدّ عداوتك ، ولا يكوننّ أصبر على مجاهدتك لهلكتك منك على صبرك لمجاهدته ، فإنه أضعف منك ركناً في قوته ، وأقلّ منك ضرراً في كثرة شره إذا أنت اعتصمت بالله ، ومَن اعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم....
يا هشام !.. احذر هذه الدنيا واحذر أهلها فإنّ الناس فيها على أربعة أصناف : رجلٌ متردّ معانقٌ لهواه .. ومتعلّمٌ متقرّئٌ ، كلما ازداد علماً ازداد كبراً ، يستعلن بقراءته وعلمه على مَن هو دونه .. وعابدٌ جاهلٌ يستصغر مَن هو دونه في عبادته ، يحب أن يُعظَّم ويُوقَّر .. وذو بصيرةٍ عالمٌ عارفٌ بطريق الحقّ يحب القيام به فهو عاجزٌ أو مغلوبٌ ، ولا يقدر على القيام بما يعرف ، فهو محزونٌ مغمومٌ بذلك ، فهو أمثل أهل زمانه وأوجههم عقلا
يا هشام !.. لو كان في يدك جوزةٌ وقال الناس : لؤلؤةٌ ، ما كان ينفعك وأنت تعلم أنّها جوزةٌ ، ولو كان في يدك لؤلؤةٌ وقال الناس : أنّها جوزةٌ ، ما ضرّك وأنت تعلم أنّها لؤلؤةٌ !....
يا هشام !.. مَن سلّط ثلاثاّ على ثلاث ، فكأنّما أعان هواه على هدم عقله : مَن أظلم نور فكره بطول أمله ، ومحا طرائف حكمته بفضول كلامه ، وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه ، فكأنّما أعان هواه على هدم عقله ، ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه .
يا هشام !.. كيف يزكو عند الله عملك ؟.. وأنت قد شغلت عقلك عن أمر ربّك ، وأطعت هواك على غلبة عقلك .
يا هشام !.. الصبر على الوحدة علامة قوّة العقل ، فمَن عقل عن الله تبارك وتعالى اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها ، ورغب فيما عند ربّه ، وكان أنسه في الوحشة ، وصاحبه في الوحدة ، وغناه في العيلة ، ومعزّه في غير عشيرة ....
يا هشام !.. إن كان يغنيك ما يكفيك فأدنى ما في الدنيا يكفيك ، وإن كان لا يغنيك ما يكفيك فليس شيءٌ من الدنيا يغنيك.
يا هشام !.. إنّ العقلاء تركوا فضول الدنيا ، فكيف الذنوب ؟.. وترك الدنيا من الفضل ، وترك الذنوب من الفرض....
يا هشام !.. لاتمنحوا الجهّال الحكمة فتظلموها ، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم.
يا هشام !.. كما تركوا لكم الحكمة فاتركوا لهم الدنيا....
يا هشام !.. رحم الله مَن استحيا من الله حق الحياء : فحفظ الرأس وما حوى ، والبطن وما وعى ، وذكر الموت والبلى ، وعلم أنّ الجنّة محفوفة بالمكاره ، والنار محفوفة بالشهوات....
يا هشام !.. اصلح أيامك الذي هو أمامك ، فانظر أي يوم هو ؟.. وأعد له الجواب فإنك موقوفٌ ومسؤولٌ ، وخذ موعظتك من الدهر وأهله ، فإنّ الدهر طويلةٌ قصيرةٌ ، فاعمل كأنك ترى ثواب عملك لتكون أطمع في ذلك ، واعقل عن الله ، وانظر في تصرف الدهر وأحواله ، فإنّ ما هو آتٍ من الدنيا كما ولّى منها فاعتبر بها .
وقال علي بن الحسين (ع) : إنّ جميع ما طلعت عليه الشمس في مشارق الأرض ومغاربها بحرها وبرها وسهلها وجبلها ، عند ولي من أولياء الله وأهل المعرفة بحق الله كفيء الظلال ، ثم قال : أو لا حرٌّ يدع هذه اللماظة ( أي البقية القليلة ) لأهلها ؟.. يعني الدنيا ، فليس لأنفسكم ثمنٌ إلا الجنة فلا تبيعوها بغيرها ، فإنه من رضي من الله بالدنيا فقد رضي بالخسيس.
يا هشام !.. إنّ كل الناس يبصر النجوم ، ولكن لا يهتدي بها إلا مَن يعرف مجاريها ومنازلها ، وكذلك أنتم تدرسون الحكمة ، ولكن لا يهتدي بها منكم إلا من عمل بها.
يا هشام !.. إنّ المسيح (ع) قال للحواريين : يا عبيد السوء !.. يهوّلكم طول النخلة وتذكرون شوكها ومؤنة مراقيها ، وتنسون طيب ثمرها ومرافقتها ، كذلك تذكرون مؤونة عمل الآخرة فيطول عليكم أمده ، وتنسون ما تفضون إليه من نعيمها ونورها وثمرها .
يا عبيد السوء !.. نقّوا القمح وطيّبوه ، وادقّوا طحنه تجدوا طعمه ، ويهنّئكم أكله ، كذلك فأخلصوا الإيمان وأكملوه تجدوا حلاوته ، وينفعكم غبّه .
بحق أقول لكم : لو وجدتم سراجا يتوقّد بالقطران في ليلة مظلمة لاستضأتم به ولم يمنعكم منه ريح نتنه ، كذلك ينبغي لكم أن تأخذوا الحكمة ممن وجدتموها معه ، ولا يمنعكم منه سوء رغبته فيها .
يا عبيد الدنيا !.. بحق أقول لكم : لا تدركون شرف الآخرة إلا بترك ما تحبون ، فلا تنظروا بالتوبة غدا ، فإنّ دون غد يوماً وليلةً ، وقضاء الله فيهما يغدو ويروح .
بحق أقول لكم : إنّ مَن ليس عليه دَين من الناس أروح وأقلّ هماً ممن عليه الدين وإن أحسن القضاء ، وكذلك مَن لم يعمل الخطيئة أروح وأقلّ هماً ممن عمل الخطيئة وإن أخلص التوبة وأناب ، وإنّ صغار الذنوب ومحقراتها من مكائد إبليس يحقّرها لكم ويصغّرها في أعينكم ، فتجتمع وتكثر فتحيط بكم .
بحق أقول لكم : إنّ الناس في الحكمة رجلان : فرجلٌ أتقنها بقوله وصدّقها بفعله ، ورجلٌ أتقنها بقوله وضيّعها بسوء فعله ، فشتان بينهما ، فطوبى للعلماء بالفعل ، وويلٌ للعلماء بالقول .
يا عبيد السوء !.. اتخذوا مساجد ربكم سجوناً لأجسادكم وجباهكم ، واجعلوا قلوبكم بيوتاً للتقوى ، ولا تجعلوا قلوبكم مأوى للشهوات ، إنَّ أجزعكم عند البلاء لأشدكم حباً للدنيا ، وإنّ أصبركم على البلاء لأزهدكم في الدنيا .
يا عبيد السوء !.. لا تكونوا شبيهاً بالحداء الخاطفة ، ولا بالثعالب الخادعة ، ولا بالذئاب الغادرة ، ولا بالأُسد العاتية ، كما تفعل بالفراس كذلك تفعلون بالناس فريقا تخطفون ، وفريقا تخدعون ، وفريقا تقدرون بهم .
بحق أقول لكم : لا يغني عن الجسد أن يكون ظاهره صحيحا وباطنه فاسداً كذلك لا تغني أجسادكم التي قد أعجبتكم وقد فسدت قلوبكم ، وما يغني عنكم أن تنقوا جلودكم وقلوبكم دنسة ، ولا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيّب ويمسك النخالة ، كذلك أنتم تخرجون الحكمة من أفواهكم ويبقى الغلّ في صدروكم .
يا عبيد الدنيا !.. إنما مثلكم مثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه .
يا بني إسرائيل !.. زاحموا العلماء في مجالسهم ولوجثْواً على الركب ، فإنّ الله يحيي القلوب الميتة بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر.
يا هشام !.. مكتوبٌ في الإنجيل : طوبى للمتراحمين !.. أولئك هم المرحومون يوم القيامة ، طوبى للمصلحين بين الناس !.. أولئك هم المقرّبون يوم القيامة ، طوبى للمطهّرة قلوبهم !.. أولئك هم المتّقون يوم القيامة ، طوبى للمتواضعين في الدنيا !.. أولئك يرتقون منابر الملك يوم القيامة....
يا هشام !.. تعلّم من العلم ما جهلت ، وعلّم الجاهل مما علمت ، وعظّم العالم لعلمه ودع منازعته ، وصغّر الجاهل لجهله ولا تطرده ولكن قرّبه وعلّمه.
يا هشام !.. إنّ كلّ نعمة عجزت عن شكرها بمنزلة سيّئة تؤاخذ بها ، وقال أمير المؤمنين (ع) : إنّ لله عبادا كسرت قلوبهم خشيته ، وأسكتتهم عن النطق وإنهم لفصحاء عقلاء ، يستبقون إلى الله بالأعمال الزكية ، لا يستكثرون له الكثير ، ولا يرضون له من أنفسهم بالقليل ، يرون في أنفسهم أنهم أشرار ، وإنهم لأكياس وأبرار....
يا هشام !.. المتكلمون ثلاثة : فرابحٌ ، وسالمٌ ، وشاجبٌ :فأما الرابح فالذاكر لله ، وأما السالم فالساكت ، وأما الشاجب ( أي الهالك ) فالذي يخوض في الباطل ، إنّ الله حرّم الجنة على كلّ فاحشٍ بذيّ قليل الحياء ، لا يبالي ما قال ولا ما قيل فيه ، وكان أبو ذر - رضي الله عنه - يقول : يا مبتغي العلم !.. إنّ هذا اللسان مفتاح خير ومفتاح شرّ ، فاختم على فيك كما تختم على ذهبك وورقك....
يا هشام !.. قال الله جلّ وعزّ : وعزتي وجلالي وعظمتي وقدرتي وبهائي وعلوي في مكاني ، لا يؤثر عبدٌ هواي على هواه إلا جعلت الغنى في نفسه ، وهمّه في آخرته ، وكففت عليه ضيعته ، وضمنت السماوات والأرض رزقه ، وكنت له من وراء تجارة كل تاجر....
يا هشام !.. إنّ مَثَل الدنيا مَثَل الحية : مسها لين ، وفي جوفها السمّ القاتل ، يحذرها الرجال ذووا العقول ، ويهوي إليها الصبيان بأيديهم.
يا هشام !.. اصبر على طاعة الله ، واصبر عن معاصي الله ، فإنما الدنيا ساعةٌ فما مضى منها فليس تجد له سرورا ولا حزناً ، وما لم يأت منها فليس تعرفه ، فاصبر على تلك الساعة التي أنت فيها ، فكأنك قد اغتبطت ( أي إن صبرت فعن قريب تصير مغبوطاً في الأخرة ).
يا هشام !.. مَثَل الدنيا مَثَل ماء البحر ، كلما شرب منه العطشان ازداد عطشا حتى يقتله....
يا هشام !.. ليس منا مَن لم يحاسب نفسه في كلّ يوم ، فإن عمل حسناً استزاد منه ، وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه.
يا هشام !.. تمثلت الدنيا للمسيح (ع) في صورة امرأة زرقاء ، فقال لها : كم تزوجت ؟.. فقالت : كثيراً ، قال : فكلٌّ طلقّك ؟.. قالت : لا ، بل كلاًّ قتلت !.. قال المسيح : فويح أزواجك الباقين كيف لا يعتبرون بالماضين ؟....
يا هشام !.. إنّ الزرع ينبت في السهل ولا ينبت في الصفا ، فكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع ولا تعمر في قلب المتكبّر الجبّار ، لأنّ الله جعل التواضع آلة العقل ، وجعل التكبّر من آلة الجهل ، ألم تعلم أنّ مَن شمخ إلى السقف برأسه شجّه ؟.. ومَن خفض رأسه استظلّ تحته وأكنّه ( أي حفظه ) ؟.. فكذلك مَن لم يتواضع لله خفضه الله ، ومَن تواضع لله رفعه.
يا هشام !.. ما أقبح الفقر بعد الغنى ، وأقبح الخطيئة بعد النسك ، وأقبح من ذلك العابد لله ثم يترك عبادته....
يا هشام !..قال رسول الله (ص) : إذا رأيتم المؤمن صموتاً فادنوا منه فإنه يلقّى الحكمة ، والمؤمن قليل الكلام كثير العمل ، والمنافق كثير الكلام قليل العمل.
يا هشام !.. أوحى الله إلى داود : قل لعبادي : لا يجعلوا بيني وبينهم عالماً مفتوناً بالدنيا فيصدّهم عن ذكري ، وعن طريق محبتي ومناجاتي ، أولئك قطّاع الطريق من عبادي ، إن أدنى ما أنا صانعٌ بهم أن أنزع حلاوة عبادتي ومناجاتي من قلوبهم....
يا هشام !.. أوحى الله إلى داود : حذّر وأنذر أصحابك عن حبّ الشهوات ، فإنّ المعلّقة قلوبهم بشهوات الدنيا قلوبهم محجوبةٌ عني.
يا هشام !.. إياك والكبر على أوليائي ، والإستطالة بعلمك فيمقتك الله ، فلا تنفعك بعد مقته دنياك ولا آخرتك ، وكن في الدنيا كساكن الدار ليست له ، إنما ينتظر الرحيل....
يا هشام !.. إياك ومخالطة الناس والأنس بهم ، إلا أن تجد منهم عاقلاً مأموناً فأنس به واهرب من سائرهم كهربك من السباع الضارية .
وينبغي للعاقل إذا عمل عملاً أن يستحيي من الله ، إذ تفرّد له بالنعم أن يشارك في عمله أحداً غيره ، وإذا حزبك أمران لا تدري أيهما خيرٌ وأصوب ، فانظر أيهما أقرب إلى هواك فخالفه ، فإنّ كثير الثواب في مخالفة هواك ، وإياك أن تغلب الحكمة وتضعها في الجهالة .
قال هشام : فقلت له : فإن وجدت رجلاً طالباً غير أنّ عقله لا يتسع لضبط ما ألقي إليه ؟.. قال : فتلطّف له في النصيحة ، فإن ضاق قلبه فلا تعرضنّ نفسك للفتنة .
واحذر ردّ المتكبرين ، فإنّ العلم يدل على أن يحمل على من لا يفيق ، قلت : فإن لم أجد من يعقل السؤال عنها ؟.. قال فاغتنم جهله عن السؤال حتى تسلم فتنة القول وعظيم فتنة الرد .
واعلم أنّ الله لم يرفع المتواضعين بقدر تواضعهم ، ولكن رفعهم بقدر عظمته ومجده ، ولم يؤمن الخائفين بقدر خوفهم ، ولكن آمنهم بقدر كرمه وجوده ، ولم يفرّح المحزونين بقدر حزنهم ، ولكن فرّحهم بقدر رأفته ورحمته ، فما ظنك بالرؤوف الرحيم الذي يتودّد إلى مَن يؤذيه بأوليائه ؟..
فكيف بمَن يُؤذى فيه ؟.. وما ظنك بالتوّاب الرحيم الذي يتوب على مَن يعاديه ؟.. فكيف بمَن يترضاه ويختار عداوة الخلق فيه.
يا هشام !.. مَن أحب الدنيا ذهب خوف الآخرة من قلبه ، وما أُوتي عبدٌ علماً فازداد للدنيا حباً إلا ازداد من الله بعداً ، وازداد الله عليه غضباً.
يا هشام !.. إنّ العاقل اللبيب مَن ترك ما لا طاقة له به ، وأكثر الصواب في خلاف الهوى .. ومَن طال أمله ساء عمله....
قال هشام : فأي الأعداء أوجبهم مجاهدة ؟.. قال (ع) :
أقربهم إليك ، وأعداهم لك ، وأضرهم بك ، وأعظمهم لك عداوة ، وأخفاهم لك شخصاً مع دنوه منك ، ومن يحرّض أعداءك عليك ، وهو إبليس الموكّل بوسواس القلوب ، فله فلتشدّ عداوتك ، ولا يكوننّ أصبر على مجاهدتك لهلكتك منك على صبرك لمجاهدته ، فإنه أضعف منك ركناً في قوته ، وأقلّ منك ضرراً في كثرة شره إذا أنت اعتصمت بالله ، ومَن اعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم....
يا هشام !.. احذر هذه الدنيا واحذر أهلها فإنّ الناس فيها على أربعة أصناف : رجلٌ متردّ معانقٌ لهواه .. ومتعلّمٌ متقرّئٌ ، كلما ازداد علماً ازداد كبراً ، يستعلن بقراءته وعلمه على مَن هو دونه .. وعابدٌ جاهلٌ يستصغر مَن هو دونه في عبادته ، يحب أن يُعظَّم ويُوقَّر .. وذو بصيرةٍ عالمٌ عارفٌ بطريق الحقّ يحب القيام به فهو عاجزٌ أو مغلوبٌ ، ولا يقدر على القيام بما يعرف ، فهو محزونٌ مغمومٌ بذلك ، فهو أمثل أهل زمانه وأوجههم عقلا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق