نهوض الأمة بالعودة إلى أهل البيت
(ع) والقرآن
المرجع الديني آية الله
العظمى السيد محمد تقي المُدرّسي
أن النبي الأكرم صلى الله عليه واله
وسلم، قد أطلق في الأمة والعالم أجمع موجاً عظيماً من التحول التاريخي واختط طريق
النهوض والخلاص للبشرية من المآسي والأزمات الإنسانية، وذلك بالثقلين "الكتاب
والعترة" وأن نهوض الأمة اليوم مرهون بالعودة إليهما، وأن العالم اليوم وهو
قد أمسى قرية واحدة كما يقال، لا يزال يمر بأزمات ومشاكل متتابعة ومتداخلة، تترك
تأثيراتها على الجميع، وأن علينا اليوم أكثر من أي زمن آخر أن نكتشف من خلال بصائر
القرآن وسيرة وكلمات أهل البيت (ع) الأسباب التي تؤدي لكل ما يحدث في مجامعاتنا
والعالم، والحلول التي يقدمها الإسلام للتغلب على هذه التحديات وعلاج هذه المشاكل.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن
دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن
يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ
فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ).
إن بعثة النبي الأكرم (ص) وانتشار نور
الإسلام: "كانت نقلة نوعية كبرى مرحلة فاصلة ومحورية ليس في الأمة بل في
تأريخ البشرية جمعاء.. ".
"كيف تحولت تلك الأمة المتفرقة
التي كان شعارها الخوف ودثارها السيف .. أولئك الذين كانوا يقتاتون الورق ويشربون
الطرق، الذين كانوا يغير بعضهم على بعض ويتقاتلون ربما على ضب أو حتى على جرادة،
كيف تحولوا وخلال فترة زمنية بسيطة جدا إلى تلك الأمة الناهضة المتوثبة والنابضة بالإيمان
والعطاء والإيثار ..
كيف تحولت تلك القسوة التي انعكست على
قلوب أهل الجزيرة العربية قبيل انتشار نور الإسلام والتي عكست كفرهم وظلالهم وسوء
ما اكتسبوه من سيئات، ومن صورها ـ على سبيل المثال ـ جريمتهم في وئد البنات، كيف
تحولت هذه القسوة إلى صورة من الرقة (ويؤثرون على أنفسهم
ولو كان بهم خصاصة)، فيؤثر الجريح منهم الأخر على نفسه في شرب الماء وهم
جميعا عطاشى، فيستشهدون جميعا ؟..
لماذا هذا التحول ؟...
وما هذا الموج من التحول الذي حدث
والذي أطلقه النبي (ص) من غار حراء، ولا يزال ينطلق في التاريخ، ما هو إعجاز النبي
صلى الله عليه وأله وسلم .. ".
إن هذا الإعجاز وهذا النور الذي فتح
ولا يزال أمام البشر أفاق الروح والعقل والضمير وطريق الهداية إلى الحق والعدل، إنما
يتمثل بـ(الثقلين الذين أورثهما النبي (ص) ولا يزالان فينا، وهما كتاب الله تعالى القرآن
الكريم والعترة المطهرة أهل البيت (ع)، كما قال صلى الله عليه واله وسلم : (إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي كتاب
الله وعترتي أهل بيتي..).
ولكن السؤال، أين نحن منه؟
إذا كان القران بيننا ونحن بين يديه وإذا
كانت العترة الشريفة موجودة وقائمة وحاضرة، إذا كان الإمام الحجة المهدي (عج)
حاضرا ومثله كمثل الشمس وإن جللتها الغيوم وحجبتها عنا، فلماذا
امتنا تعيش هذه الأوقات والظروف الحرجة؟
لماذا يعربد في بلادنا كل
كافر وفاسق ومجرم وهتاك؟
لماذا السجون تمتلئ
بالحرائر ناهيك عن الأحرار ؟
لماذا هذا القتل المتعمد ؟
لماذا هذه الانتهاكات لحقوق
الإنسان في بلادنا والعالم ؟
ألا يحق لنا ونحن في هذه الأيام
الشريفة في رجب الأصب وفي رحاب ميلاد مولى المتقين أمير المؤمنين (ع) أن نجلس
ونفكر أين نحن من القران؟
أين نحن من أهل البيت (ع) ؟
لماذا ابتعدنا عنهما؟
نشتري الحياة الدنيا بالآخرة
ويكون حظنا في هذه الدنيا الاوكس ولا نعرف كيف يكون حظنا يوم القيامة لماذا ؟ .. ".
الولاية.. وخارطة طريق الحق
إن آيات كثيرة في القرآن الكريم، إنما
توجه الخطاب لـ(المؤمنين) دون غيرهم.. حيث أن الإيمان (وقر
في القلب وعمل بالأركان واعتراف وإذعان باللسان)، فيقول
لهم الباري:
(من يرتد منكم عن دينه) .
فكيف نستطيع أن نفهم هذه الآية
وما بعدها .. و ما هذا الارتداد؟ ".
"إذا تدبرت في الآيات عميقا تجد أنها
تجيبك عن هذا السؤال فـ "من يرتد منكم عن دينه"
يعني هنا من يخالف ما ذكر في هذه الآيات الكريمة بالذات من الحقائق، والله تعالى
يريد أن نعرف الحقيقة بضدها، فنحن إذا أردنا أن نعرف النور نقول انه ضد الظلام
ونعرف النهار بأنه خلاف الليل ونعرف المرض بأنه انحراف عن الصحة أليس كذلك ؟
كلما أردنا أن نبين حقيقة استطعنا أن
نعرفها بما يضادها فإذا عرفنا المضاد عرفنا الضد بصورة واضحة، والقران يعطيك هنا
برنامج المؤمنين الصادقين الذين لم يرتدوا عن دينهم، يعطيك خارطة طريق الحق، فيقول
من لم يرتد هو من يحبه الله ويحب الله، هو الذي يجاهد في سبيل الله ولا يخاف لومة
لائم، و هو الذي يتمسك بولاية من أمر الله بولايته، وانه هو الذي كان يقيم الصلاة
وآتى الزكاة وهو راكع، وقد علِمنا باليقين أن ذلك هو الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب عليه السلام..
من لا يرتد هو الذي ينتمي إلى قوله
سبحانه وتعالى "ومن يتول الله ورسوله والذين
امنوا فان حزب الله هم الغالبون"، وأنت يكفيك ان تعرف مَن الآخر؟
والعاقل تكفيه الاشارة والكناية افصح وابلغ من التصريح ..
ثم لابد أن ينتبه الإنسان ويحافظ على إيمانه
ولا يرتد عن دينه بالحذر من الانزلاقات والاسترسال مع الحوادث والانسياب مع
المزالق فيبدأ إيمانه يذوب ويضعف مع الزمن ..
وكما جاء في مضمون حديث للإمام موسى
بن جعفر (ع) إن المؤمنين علموا بان هذه القلوب تزيغ ..
قالوا "ربنا
لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا".
إن من عظيم الصفات والمآثر للمؤمنين
حبهم لله وحب الرب لهم، والتواضع للمؤمنين، فهم اذلة عليهم، وأعزة أقوياء على
الكافرين، (فمواقف المؤمن ليست واحدة إنما منبعثة من إيمانه .. ومن ثم حياة
المؤمنين جهاد ومشقة وبذل المزيد من الطاقة ولا يؤثر فيهم لوم و كلام الناس
وتخاذلهم..) ".
إن "ولايتنا لأمير المؤمنين (ع)
والتي أمر بها الله تعالى، يجب أن لا تكون ولاية سطحية على الألسن وليست عاطفية، إنما
هي إن شاء الله ولاية عميقة في نفوسنا إلى درجة أننا نحاول في حياتنا أن نتمثل
ونتجسد إن شاء الله ما نستطيع من سيرة علي (ع) وهو الذي قال (ألا وان لكل مأموم إمام يقتدي به ويستضيء بنور علمه)
إلى أن يقول (ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن
أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد) فعلينا أن نبذل الجهد ونسعى ونقوم بذلك
لنكون إن شاء الله من هذا النوع".
مسؤولية ودور الحوزات العلمية
القران يجب أن نتدبر فيه أكثر فأكثر،
أن نعرف تفسيره و تأويله، أن نعرف بصائره ونهتدي بها، أن نعرف تطبيقه و تجسيده، في
من يجسد هذا القران؟
من هم الذين امنوا وما هي صفاتهم؟
من هم الذي الذين كفروا،
الذين نافقوا، وصفاتهم ؟
وهكذا لكي نعرف تجسيد القرآن على الأرض
وفي الواقع وألا يبقى القرآن بعيدا، مركونا في الرف، إنما يكون القران حاضرا بيننا
إذا عرفنا بصائره واستنطقناه وطبقناه على أنفسنا ومحيطنا في كل جوانب حياتنا...
ولن يكون ذلك أيضا إلا بتولي عدل
القرآن من أمرنا الله بولايتهم ولاية كاملة وأيمانا كاملا بهم بعد رسول الله (ص)،
وهو أمير المؤمنين والأئمة من بنيه عليهم السلام.. واتخاذهم ميزانا ومنهجا
لحياتنا.. ".
اليوم أتصور أن الوعاء الذي فيه ينموا
حزب الله هذه الفئة التي يقول ربنا سبحانه عنهم إنهم هم الغالبون، إن هذا الوعاء
هي الحوزات العلمية لأنها محاولة ومسعى جاد من اجل التمثل بحياة النبي محمد وأهل
بيته المعصومين صلى الله عليهم وسلم أجمعين..
لذا فطالب العلم حينما يرتدي هذه
العمة وهذا اللباس يحاول أن يكون في هيئته الظاهرية على هيئة النبي وأهل بيته،
ولكن هذا الظاهر لا يكفي وليس هو المقياس، بل يحاول أن يتمثل النبي وأهل البيت (ع)
في حياتهم، أن يقترب أكثر من سلوكهم ومنهجهم وأخلاقهم وآدابهم وعبادتهم، فيكون في
علاقاته، في سلوكه، في كل ما له صلة بحياته، يريد أن يتمثل الإسلام كله، وبتعبير آخر
يكون وعاء للثقلين، كتاب الله وعترة النبي صلى الله عليه واله وسلم".
اليوم تنشأ حوزات علمية شابة نشيطة
مجاهدة إن شاء الله، كما حال الحوزات العلمية اليوم وعلى مر التاريخ، حوزات علمية
تتمثل هذين الثقلين العظيمين ،القران وأهل البيت (ع)، وإذا كانت كذلك بعون الله
فأنها تستطيع أن تصلح وتغير وتبني وتتقدم، ويكون لها دور عظيم، فتغير التاريخ لأن
النبي (ص) بوجوده وبالقران الكر يم غير التاريخ وانتشل الأمة من وهدتها العميقة
وصاغها وجعلها أمة ناهضة عظيمة...
يا علماء يا طلبة العلم، يا شباب، أنتم
إن شاء الله الراية بيدكم اليوم، أنتم الوعاء، فليتجلى القرآن وأهل البيت (ع) في
سلوككم في أفكاركم لتكونوا ممثلين لهم ..
وذلك بأن تتجسد فينا تلك الصفات
العظيمة التي وردت في الآيات المباركة، أن تقتربوا أكثر وأعمق من القران وهو الشافع
المشفع، من جعله إمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، فلنتدبر
القران، لتخترق و لتنير بصائره القلوب..
أن نرى في الحوزات من طلبتنا وعلمائنا
الشباب مدرسين وأساتذة كبار متبحرين، في التدبر والتفسير، وفي سيرة وتأريخ أهل
البيت (ع) يميز بين الغث والسمين ويأخذ سيرتهم من كلماتهم المضيئة. كما في الأصول
والفقه.. ".
ليس لدينا بعد الله تعالى أعظم وأرجى
من أهل البيت (ع) والقرآن الكريم، نحن اليوم يجب أن نكتشف الداء الموجود في
مجامعاتنا و العالم اجمع ونصف الدواء مما ندرسه ونستلهمه من بصائر من القران
الكريم ومن كلمات وسيرة أهل البيت (ع)، وانتم تعلمون ما في العالم ؟
وتعرفون أيضا أنه صار مثل بيت واحد
يسمونه الأسرة العالمية، أي حدث وأمر يقع في آخر الدنيا يتأثر فيه مكان آخر،
العالم أصبح متأثر بعضه ببعض، هناك مشاكل كبيرة، فما هي رؤية الإسلام وحلوله
ومعالجاته لهذه المشاكل..
وبالتأكيد لها في الإسلام حلول..
فلنجهد ونسعى ونثابر ونقترب أكثر وبصدق وعزم من كتاب الله المجيد وأهل البيت (ع)
وسيرتهم وكلماتهم ووصاياهم التي لو عاد الناس إليها وأخذوا بها فأنها ستضيء حياتهم
ودرب العالم..
وفي طليعتهم الإمام أمير المؤمنين
عليه السلام وكلماته ووصاياه العظيمة التي من بينها مثلا عهده إلى مالك الأشتر
رضوان الله عليه، ذلك العهد المتدفق بالنور والحكمة في الإدارة والحكم والعلاقات،
بما يضمن بناء مجتمع رصين يسوده العدل والسلام والطمأنينة والرفاه والتقدم.. وما أحوجنا
للعودة إلى هذا النور والنهج القويم لعلاج مشاكلنا بل وللعالم اجمع ... ".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق