الثلاثاء، 22 يناير 2013

مَنْ المسؤول عن المشاكل والأزمات والاضطرابات والصراعات؟


مَنْ المسؤول عن المشاكل والأزمات والاضطرابات والصراعات؟
الشيخ نمر النمر 

إن الحياة سجال دائرٌ بين الباطل وأهله، والحق وأهله، بين طغمة مستعلية، وثلة مستضعفة، بين مَنْ يبطش لانتهاك الكرامة بالإذلال وانكماش العدالة بالجور ومصادرة الحرية بالكبت وسلب الأمن بالترهيب، ومَنْ يدافع لحفظ الكرامة وبسط العدل وفك الأغلال واستتباب الأمن، بين مَنْ يُغَيِّب العزة ويختزل القسط ويصادر الحرية ويسلب السلام، ومَنْ يطالب بالعزَّة ويأمر بالقسط ويسترد الحرية وينشد السلام.
وبصبغة الكرامة وروح العزة ينبسط العدل، وتحكم موازين القسط، وبالعدل والقسط تشرق شمس الحرية، ويضيء قمر الانعتاق، وبالحرية والانعتاق يستتب الأمن، ويجنح للسلام، وبالأمن والسلام تخرج الأرض خيراتها، ويتحقق الرفاه والسعة في العيش.
فالكرامة أولاً لأنها هي المحور لكل القضايا الكبرى التي تعيشها الأمة الحضارية، والمجتمع النهضوي، والكرامة أولاً لأنها هي الأهم في تفكير الأمة الصالحة، والمجتمع الرشيد، وبقدر ما تملك الأمة والمجتمع من إحساس وشعور بالكرامة ستسعى لتحقيق القسط والعدالة، وبسعة القسط والعدالة يندحر الجور والفساد، ويولي الظلم والظلام، فتشرق الشمس، ويبزغ القمر، وتسطع النجوم، وتتلألأ الكواكب، لينبسط نور الحرية، وينعتق التفكير، وتُبْدع العقول، وتتألق الأفكار، ويستتب الأمن، ويتحقق السلام.
إن الكرامة هي النبع الخالص للعدالة والحرية والأمن، والإنسان والمجتمع الذي يشعر بكرامته هو الذي سيسعى لحفظ كرامته والذود عنها، وسيضحي بنفسه وماله دفاعاَ عنها وصوناً لها من الإستلاب، وسيجاهد لنيل العدالة والحرية والأمن. لأن الإنسان الكريم والمجتمع الكريم لا يتوقف عند حدود تمني العدالة والحرية والأمن، ولا يكتفي بالمطالبة بها، ولا يستجديها مِمَّنْ سلبها منه، وإنما يسعى ويجاهد ويضحي لتحقيقها وينتزعها انتزاعاً، لأن العدالة والحرية والأمن حقوق سلبها وما زال يسلبها الطغاة، ولم ولا ولن يعطوها للمهين أو الجبان، وإنما تسترد بالتناصر ويأخذها المتناصرون، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ﴾. ومن هذه الآية نستوحي دُرراً من البصائر القرآنية والأحكام الربانية ومنها:
1-  إن المجتمع الكريم لا يرتضي الذل ولا يقبل به، ولذلك هو مجتمع يتحلى بالشجاعة ويتصف بالإباء والرفض والممانعة والمدافعة والمقاومة للظلم والبغي والطغيان والاستبداد.
2-  إن المجتمع الكريم لا يتطلع إلى أحدٍ ولا ينتظر أحداً من خارج دائرة الإيمان ليدافع عن مظلمته، أو يقاوم عنه، أو ينتصر له، أو يحقق أهدافه، وإنما هو الذي يبادر ويسعى بنفسه لدحر الظلم والبغي والطغيان والاستبداد متوكلاً على الله، ومعتمداً على قدراته الذاتية وإمكاناته المتاحة، والضمير المنفصل " هُمْ " في الآية للتأكيد على تلك الرؤية.
3-  ينبغي الإباء والرفض والممانعة والمدافعة والمقاومة للظلم والبغي والطغيان والاستبداد وسد أبوابها عن المجتمع لمن استطاعه لأنه من الواجبات الفطرية، ولا يحسن العفو عن الظالم والباغي ما لم يتوب ويتراجع عن ظلمه وبغيه لأنه إغراء على الظلم والبغي وهو قبيح ومذموم، وحينئذٍ سيكون العفو سبباً لتمادي الظالم والباغي على الظلم والبغي، والانتصار هنالك يقطع دابر الظلم والبغي، قال الإمام علي بن الحسين عليه وعلى أبائه السلام: ﴿ وحق من أساءك أن تعفو عنه، وإن علمت أن العفو يضر انتصرت، قال الله تبارك وتعالى: ﴿ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ﴾. ﴾. من لا يحضره الفقيه - الشيخ الصدوق - ج 2 - ص 625 – 626
4-  إن خذلان المؤمن منكرٌ عظيم، وخذلان المؤمنين هو الذي يجرأ الطغاة على الظلم والبغي والطغيان والاستبداد للقضاء على روح الإباء والرفض والممانعة والمدافعة والمقاومة، مما يؤدي إلى تقطيع أواصر عرى الأخوة الإيمانية بين المؤمنين، وتفكك روابط المجتمع، وتفتيت اللحمة الاجتماعية، وبالتالي خضوع ورضوخ المظلوم المبغي عليه طوعاً أو كرهاً لما أصابه من ظلم وبغي وطغيان واستبداد. ولم يتمكن الطاغي من الغلبة، ولم يملك القوة والسلطة إلا بتخاذل المجتمع، وتقطعه إلى أفراد متفرقة لا يفكر فيه الفرد إلا بشأنه الشخصي، ولا يهتم بالشأن العام ولا بأمور المسلمين، فإذا أصاب البغي البعضَ منهم هزَّ البعضُ الآخر أكتافهم، ومضوا لشأنهم، وكأن الأمر لا يعنيهم! فوهنوا وهانوا وأهينوا.
إن البغي أخطبوطي في بطشه، وسبعي في مخالبه، وثعلب في مكره، وذئب في خداعه، ولئن وقف الإنسان بمفرده وحيداً في قبال شدائد وأعاصير البغي فإنه لباذل من الجهد والطاقة ما يرهقه وتنوء به العصبة أولي القوة مما يحول بينه وبين الانتصار، ولو أن إخوانه هرعوا لنصرته وعاضدوه وظاهروه في الإباء والرفض والممانعة والمدافعة والمقاومة للظلم والبغي والطغيان والاستبداد لتمكن مع إخوانه المؤمنين من المجتمع الكريم من دحر الظلم، وهزيمة البغي، ونسف الطغيان، ولجم الاستبداد، وتحقيق الانتصار، ومن حق المؤمنين على بعضهم بعضاً المؤازرة في السراء والضراء حتى يشعر المؤمن بأن كل المؤمنين له مؤازرٌ وظهير وأنه ليس وحده في ساحة الإباء والرفض والممانعة والمدافعة والمقاومة للظلمة والبغاة والطغاة والمستبدين، بل إن كل القوى الإيمانية تسانده وتشد أزره. قال رسول الله  صلى الله عليه وآله: ﴿ المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ﴾.
ولذلك لا يمكن للمجتمع الكريم إلا أن يكون كنفس واحدة، فإذا أصاب البغيُ بعضَهم فإنهم يعتبرونه ويعتقدون أنه أصابهم جميعاً، وتجدهم جميعاً صفاً واحداً يقفون ضدَّ الطاغي في ساحة الإباء والرفض والممانعة والمدافعة والمقاومة يتناصرون حيث ينصر بعضُهم بعضاً ممَّنْ ظلمهم وبغى عليهم. قال رسول الله  صلى الله عليه وآله: ﴿ من مشى مع مظلوم حتى يثبت له حقه ثبَّت الله قدميه على الصراط يوم تزل الأقدام ﴾. وهذه الرؤية الرسالية والموقف المبدئي يردع الظالمين والبغاة والطغاة والمستبدين من التمادي في ظلمهم وبغيهم وطغيانهم واستبدادهم، ولأن المجتمع الكريم خُلُقُه التناصر فإنهم لن يسكتون على ظلم وبغي الطغاة إذا أصاب أيَّ واحدٍ منهم بل سيقفون ويزمجرون بوجوههم، وهذه الرؤية الرسالية والموقف المبدئي أيضاً يعطي الأمل والثقة لمن أصابه الظلم والبغي بأنه ليس بمفرده يأبى ويرفض ويمانع ويدافع ويقاوم، وإنما كل المؤمنين سوف يأبون ويرفضون ويمانعون الظلم والبغي الذي أصابه، وسيدافعون ويقاومون جميعاً صفاً واحداً معه وينتصرون له. ومعنى ﴿ يَنتَصِرُونَ ﴾. يتناصرون أي ينصر بعضهم بعضاً.
5-  إن أخوَّة الإيمان تفرض حق ووجوب التناصر بين المؤمنين، وبالأخص مناصرة المصلحين الصادقين والمجاهدين المخلصين لإحقاق الحق، وإبطال الباطل، وردع المعتدي، وإجارة المهضوم، ومخاصمة الظالم، وإعانة المظلوم، ودحر الباغي، ونصرة المبغي عليه.
إذاً ينبغي الوقوف إلى جانب المصلحين الصادقين، والمجاهدين المخلصين ومؤازرتهم استجابة للتناصر الذي فرضه الإسلام لنصرتهم إذا أصابهم البغي، والدفاع عنهم إن هوجموا، والقتال معهم إذا استبيحوا. لأن الإباء والرفض والممانعة والمدافعة والمقاومة لسد أبواب الظلم والبغي والطغيان والاستبداد عن المجتمع لمن استطاعه، والانتصار والتناصر لأجل ذلك من الواجبات الفطرية، والمؤمنون مكلفون بالتناصر لبعضهم لاقتلاع الظلم والبغي. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾  ويتأكد هذا الوجوب إذا كان المؤمن ذا مكنة في المجتمع بالعلم أو المال أو الجاه الاجتماعي أو المنصب الحكومي أو غير ذلك، لأن المكنة تكليف قبل أن تكون تشريف، ولذلك تتضاعف على مَنْ حظي بالمكنة المسؤولية لخدمة المجتمع والذود عن كرامته وحريته وحقوقه، فإذا وهب الله المؤمن سيادة في الأرض أو تمكينا بين العباد فإنما وهبه الله ذلك ليقضي حوائج الناس من نصرت المظلوم، وقمع الظالم، وإعانة الملهوف، وما شابه ذلك، وليس للتعالي على الناس، أو التسلط على رقاب العباد. قال رسول الله  صلى الله عليه وآله: ﴿ إن الله يسأل المرء عن جاهه، كما يسأل عن ماله. يقول: جعلت لك جاها فهل نصرت به مظلوما؟ أو قمعت به ظالما؟ أو أعنت به مكروبا؟ ﴾ وإن جحد المؤمن نعمة مكنة العلم أو المال أو الجاه أو المنصب أو ما شابه، فلم ينصر مظلوماً، ولم يقمع ظالماً، ولم يعن ملهوفاً، تحولت تلك النعمة إلى نقمة وكانت عرضة للزوال. روي عن رسول الله  صلى الله عليه وآله: ﴿ إن لله عند أقوام نعماً أقرها عندهم ما كانوا في حوائج المسلمين، ما لم يملوهم، فإذا ملوهم نقلها إلى غيرهم ﴾. وجاء عن الإمام الحسين  عليه السلام إنه قال: ﴿ حوائج الناس إليكم من نعم الله عليكم، فلا تملوا النعم فتعود نقما ﴾.
ولا يجوز خذلان المصلحين الصادقين، والمجاهدين المخلصين، وتركهم يكافحون ويجاهدون وحدهم في معترك الصراع والمدافعة والمقاومة للظلمة والبغاة، لأن هذا التخاذل هو الذي جرَّ على المؤمنين الذل والخزي والضَّعة والعار، وقد نهت عنه الشريعة السماوية، وأنزلت باللعنة على من يقبعون في ظلماته الداكنة ومستنقعاته المزرية. قال رسول الله  صلى الله عليه وآله: ﴿ لا يقفن أحدُكم موقفاً يُضْرَب فيه رجلٌ ظلماً فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه ﴾.
6-  إن المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، فإذا تعرض أحدٌ كريم في المجتمع الكريم للظلم والبغي والطغيان والاستبداد ولم يملك المكنة والقدرة والاستطاعة للوقوف في وجهه بمفرده فإنه لا يستسلم له، وإنما يستفيد من طاقات وقدرات وإمكانات إخوانه المؤمنين للوقوف والنهوض بوجه الظلم والبغي لأن المظلوم مكلف بممانعة ومدافعة ومقاومة الظالم الباغي لرفع الظلم والبغي، والانتصار يشعر عن طبيعية وفطرية مقاومة الباغي.
7-  ينبغي على أي مظلوم أصابه البغي إذا لم يستطع أن يقف بوجهه بمفرده ألا يسكت، وإنما عليه أن يطلب النصرة من إخوانه المؤمنين، فإذا أصاب البغيُ بعضَ المؤمنين ولم يملكوا المكنة والقدرة والاستطاعة على مواجهته بمفردهم وجب عليهم طلب النصرة من بعضهم بعضاً للإباء والرفض والممانعة والمدافعة والمقاومة للظلم والبغي والطغيان والاستبداد، وأعدوا جميعاً النصرة عليه. قال الإمام الحسين  عليه السلام:﴿ ألا من ناصر ينصرنا ﴾. و ﴿ يَنتَصِرُونَ ﴾ مشتقة من " انتصار " والانتصار والاستنصار تعني طلب النصر. فمعنى ﴿ يَنتَصِرُونَ ﴾. يطلب كلٌّ منهم النصرة من بعضهم بعضاً.
8-  ينبغي الإباء والرفض والممانعة والمدافعة والمقاومة للظلم والبغي والطغيان والاستبداد وسد أبوابها عن المجتمع لمن استطاعه والانتصار والتناصر لأن ذلك من الواجبات الفطرية، وينبغي على الأحرار وأصحاب الضمائر المتيقظة إجابة المظلوم والمضطهد والمستضعف لأنهم مكلفون بنصرتهم، وينبغي عليهم أن لا يتوانوا في نصرة مثل هذا المظلوم والمضطهد والمستضعف، لأن الانتصار وطلب العون من الحقوق الطبيعية لأي مظلوم ومضطهد ومستضعف، ونصرة المظلومين والمضطهدين والمستضعفين فضلاً عن نصرة المؤمنين مسؤولية كل إنسان حر ومتيقظ الضمير فضلاً عن المؤمنين. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ﴾. أما إذا طلب المصلحون الصادقون، والمجاهدون المخلصون النصرة ضدَّ الظالم الباغي فإنه يتأكد هنالك تكليف المؤمنين بوجوب نصرتهم لأن وجوب طلب النصر دون وجوب النصرة يعتبر لغو ولا فائدة فيه إلا إذا كانت هناك حكمة أو علة مانعة في البين، ولكن الحال أنه لا يوجد دليل على وجود العلة المانعة. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿  إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾
وخلاصة الأحكام التكليفية هي: يجب على من أصابه البغي أن يدافعه ويقاومه، وإن لم يستطع مدافعته ومقاومته بمفرده وجب عليه أن يطلب النصرة من إخوانه المؤمنين. ويجب على المؤمنين النصرة لمن أصابه البغي، ويتأكد وجوب النصرة حين طلب النصر.
يحرم إيقاع اللوم على المقاومين:
إن الإباء والرفض والممانعة والمدافعة والمقاومة للظالم والباغي والطاغي والمستبد هي حق لكل الناس، وهي جهادٌ مشروع لاسترداد الحقوق المسلوبة، وهي مسؤولية المصلحين الصادقين، والمجاهدين المخلصين للدفاع عن النفس والمظلومين والمضطهدين والمستضعفين، ولاسترداد الحقوق الضائعة... كما أن معاقبة الظالم أو الباغي حق للمظلوم بل قد لا يحسن العفو لأن الهدف من التعافي هو اقتلاع الغيظ الذي يشعل شرارة الظلم والبغي والطغيان، فإذا كان العفو سبباً لتمادي الظالم في ظلمه، والباغي في بغيه، والطاغي في طغيانه، والمستبد في استبداده، فإنه ينبغي على المظلوم معاقبة الظالم.
لذلك لا يحق ولا يجوز لأحد أن يمنع المظلوم من حقه في معاقبة الظالم، كما لا يحق ولا يجوز لأحد أيضاً أن يعاقب أو يوبخ أو يلوم أو يؤاخذ أو يعاتب المظلوم حين ينتصر بعد ظلمه، لأنه لا سبيل على المظلومين ولا مجوِّز لإبطال حقهم في الشريعة الإلهية حتى يستحقون المعاتبة والمؤاخذة والتوبيخ واللوم والمعاقبة. يقول الله سبحانه وتعالى:﴿ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ﴾. وقال الإمام علي بن الحسين عليه وعلى أبائه السلام: ﴿ وحق من أساءك أن تعفو عنه، وإن علمت أن العفو يضر انتصرت، قال الله تبارك وتعالى: ﴿ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ﴾.﴾. من لا يحضره الفقيه - الشيخ الصدوق - ج 2 - ص 625 – 626
فلا يجوز العفو الذي يشجع أو يجرئ الظالم ليتمادى في ظلمه والباغي في بغيه والطاغي في طغيانه والمستبد في استبداده. أما العفو المفروض قسراً على المظلوم من قبل الظالم فلا اعتبار به ولا شرعية له.
ولا يجوز لأحدٍ إذاً أن يلقي باللوم على المظلومين أو المضطهدين أو المستضعفين أو المصلحين الصادقين أو المجاهدين المخلصين، لأنهم يطالبون بحقوقهم المشروعة عبر الإباء والرفض والممانعة والمدافعة والمقاومة لبلوغ الانتصار على الظالم الباغي الطاغي المستبد ومعاقبته.
وبهذه الآية يفضح القرآن زيف الرؤى السلبية، والأفكار الانهزامية، والثقافة التبريرية، والمفاهيم المغلوطة، والمقولات المشوشة، والمواقف الحزبية، والأحكام الجائرة؛ وينقض القرآن جانباً من الأفكار السلبية التي يبثها المنهزمون والمتمصلحون والحزبيون والمتعصبون في المجتمع والأمة، ومن هذه الثقافات الشيطانية، والأفكار الجاهلية، والوسائل الطاغوتية الترويج للثقافة الخاوية الجبانة المنهزمة وهي: أن الإباء والرفض والممانعة والمدافعة والمقاومة التي يمارسها ويقوم بها ويتحمل عبء أثقالها المظلومون والمضطهدون والمستضعفون، والمصلحون المخلصون، والمجاهدون الصادقون ضدَّ الظالمين، وضدَّ الانحراف العام والفساد المستشري هي السبب في الاضطرابات الأمنية، وتأزيم الأوضاع الاجتماعية والسياسية، وانحسار التلاقي بين الأطياف المختلفة، وانعدام الثقة في العلاقات العقدية والسياسية، و..و..
إن الذين يوقعون اللوم ويصبُّون العتاب على المظلومين والمضطهدين والمستضعفين شركاء بوعي وشعور أو بغفلة وتبلد للجلادين من الظلمة والبغاة والطغاة والمستبدين في جلد الضحايا الذين يجاهدون بالإباء والرفض والممانعة والمدافعة والمقاومة دفاعاً عن كرامة وحرية وحقوق المجتمع والأمة.
حصر المسؤولية﴿عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ﴾
إذاً فعلى مَنْ يقع اللوم؟ ومن هو المسؤول عن الواقع الفاسد؟ والجواب القرآني واضح وصريح في أن المسؤول الأول والوحيد عن الاضطرابات الأمنية، والأزمات السياسية، والتردي الاقتصادي، والصراعات العقائدية، والتشققات الاجتماعية، والجهل العلمي، والتخلف التقني، والفساد الخلقي، والمستنقع الذي يُفَرَّخ فيه المشاكل، وتتأزم منه الأوضاع، وتشتعل منه الصراعات بجميع أشكالها وألوانها؛ هو الظالم والباغي الذي يتسلط على خيرات البلاد، ورقاب العباد، ويهلك الحرث والنسل، وينشر الفساد، ويسفك الدماء. يقول الله سبحانه وتعالى:﴿ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾. وبهذا يكشف القرآن الكريم زيف الثقافة التبريرية السلطوية، ويقطع ألسنة ضعفاء النفوس، ومرضى القلوب، والمنهزمين والمتحزبين والمتعصبين الذين يقفون دائماً مع الظالم الباغي الطاغي المستبد المستعلي ضدَّ المظلوم المضطهد المستضعف.
والبغي هو: الجد والمثابرة في العمل والسعي لغصب حقوق العباد، والتجاوز لحقوق رب العالمين والتعدي على حدود الله، وهو أسوء أنواع الظلم، وأجلى مظاهر البغي هو البغي السياسي لمن يتبوأ سدة الحكم والسلطة باغتصابها من أهلها الذين يستحقون الائتمان على البلاد، والولاية على العباد لِما يتحلون به من الحكمة والعلم والتقوى والعدالة.
إذاً القرآن الحكيم بقوله: ﴿ إِنَّمَا ﴾ يحصر السبب لكل أنواع الفساد ولكل الأزمات والمشاكل والصراعات والتشققات بجميع أشكالها وألوانها في ظلم وبغي وفساد وانحراف الزعماء الظلمة والبغاة المغتصبين للسلطة، فالظالم والباغي والطاغي والمستبد هو السبب الوحيد في الاضطرابات وانعدام الأمن، وليس ردّ وإباء ورفض الظلم والبغي وممانعته ومدافعته ومقاومته من قبل المظلومين والمضطهدين والمستضعفين، والمصلحين الصادقين، والمجاهدين المخلصين.
فالسلطة المتمثلة في:
1-  الدول الإستكبارية الدولية التي قطَّعت أوصال الأمة، وسعت وما زالت تسعى لبسط نفوذها الفاسد، وتوسيع سلطانها المتعجرف على الشعوب، لنهب ثرواتهم، ومسخ ثقافاتهم، وإفساد أخلاقهم.
2- دول الاحتلال الغاصبة التي نهبت الأرض، وفككت الدولة، وسفكت الدماء، وشردت الناس، ومزقت الأسر الاجتماعية، ودمرت البنية التحتية.
3-  والحكومات والأنظمة الاستبدادية التي انتهكت كرامة الشعب، واعتدت على الحقوق، وغيَّبت العدالة، وصادرت الحريات، وسلبت الأمن.
4-  وهكذا كل سلطة سياسية أو دينية أو اجتماعية أو ما شابه تظلم الناس، أو تبغي في الأرض.
والسلطات السياسية الثلاث ( الاستكبار والاحتلال والاستبداد ) هي التي تمارس الإرهاب الدولي والإقليمي والمحلي، وهي مستنقع نبعه الآسن النتن، وهي المسؤولة عن كل عملية إرهابية تقع في بقاع الأرض، وهي المسؤولة عن كل مشاكل الشعوب وجميع مآسيها،لذا ينبغي أن توجه سهام الغضب عليها، وأن يقع اللوم والعتاب والمؤاخذة والعقاب عليها. يقول الله سبحانه وتعالى:﴿ أُوْلَئِكَ ﴾ أي ﴿ الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ ﴿ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾. في الدنيا بسلبهم الراحة والاطمئنان، وبالشقاق والقلق والحرمان، وبالمعيشة الضنكة وغدر الزمان، وفي الآخرة بثياب من نار، وشراب الحميم، وطعام الزقوم. يقول الله سبحانه وتعالى:﴿ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق